موقف علماء السنة من الصوفية
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا،
ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا
إله الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن مواقف علماء السنة متعددة بشأن الصوفية والمتصوفة، ولعل تعدد
هذه المواقف يعود إلى أمور عدة، منها:
أولاً: اختلاف المقصود بتلك العبارات زمنياً، فبعضها
يتحدث عن متصوفة القرن الأول والثاني وبعضها عن متأخريهم.
ثانياً: اختلاف المقصود بتلك
العبارات موضوعياً، فبعضها يتحدث عن الصوفية كعلم وبعضها عن رجال المتصوفة
ومشايخها.
ثالثاً: اختلاف السياقات التي
استلت منها عبارات هؤلاء الأئمة، فتجد أن سياق المؤلف يتحدث عن أصل علم التصوف
فينقل على اعتبار أنه ثناء، ثم ينقل حديثه عن مبتدعة القوم فينقل عنه على اعتبار
أنه ذم.
رابعاً: اختلاف البيئة التي
قيلت فيه، فيختلف الحكم على التصوف من عالم نشأ في بيئة كان الغالب فيها التصوف،
وآخر كان الغالب فيها غير ذلك.
والجملة، فإن مواقف علماء السنة من التصوف والصوفية لا تخلو في
الغالب من أحد هذه المواقف، ويمكن جعلها - بطريقة مختصرة - في ثلاثة مباحث كما يلي:
المبحث الأول: الثناء المطلق على
التصوف والصوفية.
المبحث الثاني: الذم المطلق على التصوف
والصوفية.
المبحث الثالث: تفصيل الموقف من التصوف
والصوفية.
نسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول
الثناء المطلق على التصوف والصوفية
قال الغزالي رحمه الله تعالى: (ولقد علمت يقيناً أن الصوفية هم
السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرهم أحسن السير وطريقتهم أصوب الطرق
وأخلاقهم أزكى الأخلاق).[1]
وقال مالك بن أنس رحمة الله تعالى:
(من تفقه ولم يتصوف فقد
تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق).[2]
وقال النووي رحمه الله تعالى: (أصول طريق التصوف خمسة: تقوى
الله في السر والعلانية، إتباع السنة في الأقوال والأفعال، الإعراض عن الخلق في
الإقبال والإدبار، الرضا عن الله تعالى في القليل والكثير، الرجوع إلى الله في
السراء والضراء ).[3]
وقال تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى: (حياهم الله وبياهم وجمعنا
في الجنة نحن وإياهم وقد تشعبت الأقوال فيهم تشعباً ناشئاً عن الجهل بحقيقتهم
لكثرة المتلبسين بها، والحاصل أنهم أهل الله وخاصته الذين ترتجى الرحمة بذكرهم
ويستنزل الغيث بدعائهم، فرضي الله عنهم وعنا بهم).[4]
وقال ابن عابدين رحمه الله تعالى: (ولا كلام لنا مع الصُدَّق من
ساداتنا الصوفية المبرئين عن كل خصلة رديَّة، فقد سئل إمام الطائفتين سيدنا
الجنيد: إن أقواماً يتواجدون ويتمايلون؟ فقال دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فإنهم
قوم قطعت الطريق اكبادَهم، ومزَّق النصبُ فؤادهم، وضاقوا ذرعاً فلا حرج عليهم إذا
تنفسوا مداواة لحالهم).[5]
المبحث الثاني
الذم المطلق على التصوف والصوفية
قارن ابن عقيل رحمه الله تعالى المتصوفة بالمتكلمين ثم فقال: (أهل
الكلام يفسدون عقائد الناس بتوهيمات شبهات العقول، والصوفية يفسدون الأعمال،
ويهدمون قوانين الأديان، ويحبون البطالات وسماع الأصوات، وما كان السلف الصالح على
ذلك المنهاج، فقد كانوا في العقائد عبيد تسليم، وفي الأعمال أرباب جد).[6]
وأوجب ابن عقيل ذم الصوفية ووصفهم بأنهم: (زنادقة في زي عباد
شرهين، ومشبهة خلعاء. لأفعالهم المنكرة المخالفة للشرع، فهم يحبون البطالات
والاجتماع على الملذات، ويعتمدون على بواطنهم ويتكلمون كالكهان، ويقول أحدهم: (قال
لي قلبي عن ربي)، ويستميلون المردان والنسوان بإلباسهم خرقة التصوف وجمعهم في السماعات.
كما أنهم يفسدون قلوب النساء على أزواجهم، ويقبلون طعام الظلمة والفساق، ولا عمل
لهم في أربطتهم إلا الأكل والرقص والغناء، مع تمزيق الثياب، والصعق والزعق
والتماوت، وتحريك الطباع والرعونات بالأسجاع والألحان).[7]
أما ابن الجوزي رحمه الله تعالى فقد اشتد في انتقاد الصوفية، وخصص
لذمهم وانتقاد مذهبهم قسماً كبيراً من كتابيه:(تلبيس إبليس، وصيد الخاطر).فمن ذلك أنه أعاب عليهم
تركهم للعلم وتنفير الناس منه، واقتصار بعضهم على القليل منه بدعوى الاكتفاء بعلم
الباطن، ولا حاجة للوسائط، وإنما هو: قلب ورب. لذلك انحرف أكثرهم في
عباداتهم، وقلت علومهم، وتكلموا في الشرع بآرائهم الفاسدة، فإذا أسندوا فإلى حديث
ضعيف أو موضوع، أو يكون فهمهم منه رديئاً؛ وإذا خاضوا في التفسير كان غالب كلامهم
خطأ وهذيان. ولجهلهم بالشرع وابتداعهم بالرأي ابتكروا مذهباً زينه لهم هواهم، ثم
تطلبوا له الدليل من الشرع، فاستدلوا بآيات لم يفهمونها، وبأحاديث لا تثبت.
وأشار ابن الجوزي إلى أن كبار مؤلفي الصوفية كالحارث بن أسد
المحاسبي البغدادي، وأبي نعيم أحمد الأصفهاني، وأبي حامد الغزالي، جمعوا في
مصنفاتهم الأكاذيب والعجائب، والاعتقادات الباطلة، والكلام المرذول، وملؤوها
بالأحاديث غير الصحيحة والدقائق القبيحة، وأمروا فيها بأشياء مخالفة للشريعة، ولم
يستندوا فيها على أصل، وإنما هي واقعات تلقفها بعضهم عن بعض، ثم دونوها وسموها علم
الباطن.
وانتقدهم في بعض سلوكياتهم داخل الأربطة، فمنها أنهم أخلدوا فيها
إلى البطالة، وأراحوا أنفسهم من طلب الرزق وإعادة العلم، ولا صلاة نافلة ولا قيام
ليل. وإنما أكثر همهم التظاهر بالمرقعات وطلب الملذات، وسماع الأغاني من المردان،
والمبالغة في المأكول والمشروب.
ولم يكتف ابن الجوزي بانتقاد عوام الصوفية وذمهم، بل انتقد كذلك
خواصهم وأعلامهم، كأبي حامد الغزالي، ومحمد بن طاهر المقدسي، وعبد القادر الجيلاني.[8]
المبحث الثالث
تفصيل الموقف من التصوف والصوفية
ولعل أبرز من يمثل ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى، ومن ذلك قوله:
(والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم
السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من
الصنفين من قد يجتهد فيخطئ فيتوب أو لا يتوب، وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع
والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم كالحلاج مثلاً، فإن أكثر
مشايخ التصوف أنكروه، وأخرجوه عن الطريق، مثل الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره،
كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية، وذكره الحافظ أبو بكر
الخطيب في تاريخ بغداد).
وتحدث ابن تيمية رحمه الله تعالى عن تمسك الصوفية بالكتاب والسنة
فقال: (فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل الفضيل بن عياض،
وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن
محمد، وغيرهم من المتقدمين، مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ حماد، والشيخ
أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء أو مشى
على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يعمل المأمور ويدع
المحظور إلى أن يموت. وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهذا
كثير من كلامهم).
ومع هذا فلم يمنعه ذلك من نقد سلوكيات بعض المنتسبين إليهم سواء من
العلماء أو العوام، ومن ذلك قوله: (منها أن طائفة منهم
تدعي أن أكل الحشيشة المخدرة تنشط على أداء الصلوات وتعين على استنباط العلوم
وتصفية الذهن. حتى أنهم يسمونها معدن الفكر والذكر، ومحركة الغرام الساكن. وهذا
كله من خدع النفس ومكر الشيطان بهؤلاء لأن تلك الحشيشة هي عمى للذهن، تجعل آكلها
أبكما مجنوناً لا يعي ما يقول).[9]
وعاب ابن تيمية على أبي حامد الغزالي تقسيمه للذكر
إلى ثلاث مراتب، الأولى: قول العامة لا إله إلا
الله. والثانية: قول الخاصة الله، الله. والثالثة: قول خاصة الخاصة، هو،
هو. وبدّعه في ذلك لأن الذكر المفرد: الله، الله والمضمر: هو، هو بدعة في الشرع،
وخطأ في القول واللغة. لأن الاسم المفرد ليس هو كلاماً، ولا إيماناً، ولا كفراً.
والمضمر ليس بمشروع، ولا هو بكلام يعقل، ولا فيه إيمان، وهو معارض للشرع.[10]
وكفّر ابن تيمية كبار الصوفية الاتحاديين القائلين بوحدة الوجود
كعمر بن الفارض ومحي الدين بن عربي الطائي الأندلسي وقطب الدين بن سبعين الإشبيلي
والتلمساني، وعدهم من ملاحدة الاتحادية وجعل كفرهم أعظم من كفر اليهود والنصارى.
وذكر ابن تيمية أن الشيخ العز بن عبد السلام كان قد كفر ابن عربي
لقوله بقدم العالم، قبل أن يظهر قوله بوحدة الوجود، من أن العالم هو الله، وصورة
له؛ وهذا أعظم من كفر القائلين بأزلية الكون. وحكى - أي ابن تيمية - عن نفسه أنه
كان ممن يحسن الظن بابن عربي و يعظمه، لما في كتبه من فوائد، كما في الفتوحات
المكية، والدرة الفاخرة. لكنه غير رأيه فيه عندما اطلع على كتابه فصوص
الحكم ونحوه، لما فيه من الكفر الباطن والظاهر، وباطنه أقبح من ظاهره، وهو
يمثل مذهب وحدة الوجود.[11]
وممن سار على درب ابن تيمية في هذا الجانب محمد رشيد رضا حيث قال:
(وجملة القول في صوفية المسلمين أن علماءهم كسائر أصناف علماء المسلمين الذين
استعملوا عقولهم في الدين من المتكلمين والفقهاء، كل صنف قد انفرد بالتوسع في علم،
فجاء فيه بما لم يجيء به غيره، وكل منهم أخطأ وأصاب، فالصوفية أتقنوا علم الأخلاق
والآداب الدينية وحكم الشريعة وأسرارها، وطرق تزكية النفس وإصلاحها، وهذا غرض
الدين ومقصده، فإن كانوا قد غلوا وأتوا ببعض ما يخالف النصوص، ودخل في كتبهم
وأعمالهم من تصوف الأمم السالفة ومن البدع ماينكره الإسلام، فالمتكلمون أيضاً قد
دخل في كتبهم مثل ذلك من الفلسفة اليونانية وغيرها، وكذلك الفقهاء قد دخل في كتبهم
مثل ذلك بالرأي والقياس والأخذ بالأحاديث الضعيفة والموضوعة).[12]
♦ ♦ ♦
انتهى البحث
وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
Tiada ulasan:
Catat Ulasan